روائع مختارة | قطوف إيمانية | أخلاق وآداب | ديوان المظالم.. في العصور الإسلامية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > أخلاق وآداب > ديوان المظالم.. في العصور الإسلامية


  ديوان المظالم.. في العصور الإسلامية
     عدد مرات المشاهدة: 2859        عدد مرات الإرسال: 0

مما لا شكَّ فيه أن أول من طَبَّق النظر في المظالم، هو النبي، لكنه لم يكن بشكله الذي كان عليه في الخلافة الأموية بعد ذلك.

وكان ذلك طبيعيًّا؛ إذ لم يكن في عهد الرسول ما يستدعي وجود ولاية المظالم إلا في حالات قليلة جدًّا، مثل ما وقع بين الرسول وبين ابن الأُتبيّة الأزدي.

فقد استعمله رسول الله على صدقات (بني سليم)، فلما جاء حاسبه- وهو ما يرويه أبو حميد الساعدي- فقال: هذا مالكم وهذا هدية.
 
فقال رسول الله: "فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا".

ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ.

وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي. أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللهِ! لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ"[1].
 
في عصر الخلفاء الراشدين:

وقد أعلن خليفة رسول الله أبو بكر t عن عزمه للقيام بقضاء المظالم؛ لرفع الظلم، وإقامة العدل والحق، وكان ذلك في أول خطبة خطبها t، فقال: " أمَّا بعد؛ أيها الناس، فإنِّي قد وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني؛ وإن أسأت فقوِّموني؛ الصدق أمانةٌ، والكذب خيانةٌ، والضَّعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أريح[2] عليه حقَّه إن شاء الله، والقويُّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحقَّ منه..."[3].
 
وبدأ قضاء المظالم يأخذ في التدرج منذ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب t، فقد كان يجمع ولاته وأمراءه كل عام في موسم الحج، ويستمع إلى شكاوى الناس، ويقتصُّ من المسيء من هؤلاء الولاة والأمراء، بل أقر عمر t مبدأ مهمًّا في محاسبة الولاة والعمال، هذا المبدأ هو ما نسميه اليوم "إساءة استعمال النفوذ"، وقد ظهر جليًّا مع والي مصر عمرو بن العاص t وأحد أبنائه، الذي لطم مصريًّا سبقه في عدْوٍ كان بينهما.
 
وهذه القصة يرويها أنس بن مالك t؛ إذ قال: "إن رجلًا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب t فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عُذْتَ مَعَاذًا[4]. قال: سابقتُ ابن عمرو بن العاص t فسبقته، فجعل يضربني بالسوط.

ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر t إلى عَمرو t يأمره بالقدوم ويُقْدِم بابنه معه، فَقَدِمَ، فقال عمر t: أين المصري؟ خذ السطو فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر t: اضرب ابن الأكرمين. قال أَنس t: فضُرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحبُّ ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنَّيْنَا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصريِّ: ضع السوط على صلعة[5] عَمرو t.

فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر لعَمرو: مذ كم تَعَبَّدْتُم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني"[6].
 
قد يتملكنا النصب والتعب إذا أردنا أن نجد قصة شبيهة، أو موقفًا مماثلًا في تاريخ الأمم الأخرى، لقد استُقود من الابن أمام أبيه، ولم يكن مجرَّد ابن عادي؛ فهو ابن أمير مصر، ولا عجب في ذلك؛ إذ الناس سواسية أمام الإسلام وحضارته.
 
في عصر الخلافة الأموية:

وفي عهد الخلافة الأموية كان عبد الملك بن مروان أشهر من جلس لهذه الولاية، ويجب أن نوضِّح أن ولاية المظالم، تتطلب علمًا بالأحكام الشرعية، وقدرة على الاجتهاد مع النصوص، وهذا يعني أن هذه الولاية تحتاج إلى فقيه عالم؛ ولذلك كان الخلفاء في الحضارة الإسلامية الذين يقومون بولاية المظالم على علم راسخ بمسائل الفقه والفروع.

وكان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان من أوائل الخلفاء الأمويين الذين جلسوا لولاية المظالم، ولم يكن هؤلاء الخلفاء القائمون بولاية المظالم يُفْتُون بغير علم، أو يُنزلون العقوبة بغير استيعاب للقضايا، ثم الحكم فيها.
 
وتوسَّعت ولاية المظالم في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ فقد اغتصب عدي بن أرطاة (ت 102هـ) والي البصرة، أرضًا لرجل، فقرر الرجل أن يتجه إلى الخليفة رأسًا في دمشق، وهو ما يرويه ابن عبد الحكم بقوله: "خرج عُمَر-رحمه الله- ذات يوم من منزله... إذ جاء رجل على راحلة له فأناخها، فسأل عن عُمَر، فقيل له: قد خرج علينا وهو راجع الآن، فأقبل عُمَر، فقام إليه الرجل فشكا إليه عدي بن أرطاة.

فقال عُمَر: أما والله ما غرَّنا منه إلا بعمامته السوداء! أما إني قد كتبتُ إليه، فضلَّ عن وصيتي: إنه من أتاك ببيِّنَة على حق هو له فَسَلِّمْه إليه، ثم قد عَنَّاك[7] إليَّ. فأمر عُمَر بِرَدِّ أرضه إليه، ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إليَّ؟

فقال: يا أمير المؤمنين، تسألني عن نفقتي، وأنت قد رددت عليَّ أرضي، وهي خير من مئة ألف؟ فقال عُمَر: إنما رددت عليك حقك، فأخبرني كم أنفقت؟ قال: ما أدري. قال: احزره. قال: ستين درهمًا. فأمر له بها من بيت المال"[8].
 
إن المتأمل في هذا الموقف ليندهش من فعل أمير المؤمنين، إنه رئيس أكبر دولة لها كيانها الثقافي والعسكري والحضاري، ومع هذه العظمة، لا يتوانى أمير المؤمنين في القصاص من والي البصرة، واسترداد الحق لصاحبه، بل أعظم من ذلك يُحَمِّل بيت المال (خزينة الدولة) نفقات انتقال المدعي مهما كانت ضئيلة أو كبيرة، وهذا من أعظم مظاهر رقي الحضارة الإسلامية، وتكافلها مع أفرادها.
 
في العصر العباسي:

وأما في العصر العباسي، فقد تَطَوَّر النظر في المظالم حتى أخذ شكلًا ناضجًا جدًّا في منتصف القرن الخامس الهجري، فأصبح للمظالم ديوان مستقلٌّ، أي ما يُعادل وزارة مختصَّة في زماننا الآن، وقد ترك لنا الماوردي صورة رائعة عن الأصناف التي تقوم بهذا الديوان، وهم:
 
الحماة والأعوان؛ لجذب القوي، وتقويم الجريء، فالحماة هم كبار القواد، والأعوان هم الشرطة القضائية.
 
القضاة والحكام؛ لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق، وبهذا استدركوا النقص الذي يمكن أن يكون في والي المظالم من حيث معرفته بالقضاء وبالأصول القضائية.
 
الفقهاء؛ ليُرجع إليهم فيما أُشْكل، ويسألهم عما اشتبه، وبهذا أكملوا نقص العلم المحتمل.
 
الكُتَّاب؛ ليُثبتوا ما جرى بين الخصوم، وما توجَّب لهم أو عليهم من حقوق.
 
الشهود؛ ليُشهدهم على ما أوجبه من حق، وأمضاه من حكم، وهؤلاء يُشبهون "النيابة العامة"[9].
 
وقد جلس خلفاء وأمراء العباسيين لولاية المظالم، ومن أعجب الأمثلة التي ذُكِرَتْ عن هذه الولاية، أن رجلًا دخل على أبي جعفر المنصور-وكان والي المظالم على أرمينية في خلافة أخيه أبي العباس السفاح- فقال: "إن لي مظلمة، وإني أسألك أن تسمع مني مثلًا أضربه قبل أن أذكر مظلمتي.

قال: قل. قال: إني وجلتُ[10] لله تبارك وتعالى، خلَقَ الخلقَ على طبقاتٍ، فالصبيُّ إذا خرج إلى الدنيا لا يعرف إلا أمه، ولا يطلبُ غيرها، فإذا فزع من شيء لجأ إليها، ثم يرتفعُ عن ذلك طبقة، فيعرف أن أباه أَعَزّ من أمه، فإن أفزعه شيءٌ لجأ إلى أبيه.

ثم يبلغ ويستحكم، فإن أفزعه شيء لجأ إلى سلطانه، فإن ظلمه ظالم انتصر به، فإذا ظلمه السلطان لجأ إلى ربه واستنصره، وقد كنتُ في هذه الطبقات، وقد ظلمني ابن نهيك[11] في ضيعة لي في ولايته، فإن نصرتني عليه، وأخذتَ بمظلمتي وإلا استنصرتُ إلى الله ولجأتُ إليه، فانظر لنفسك أيها الأمير أو دعْ.

فتضاءل أبو جعفر، وقال: أعد عليَّ الكلام. فأعاده فقال: أما أول شيء فقد عزلتُ ابن نهيك عن ناحيته. وأمر بردِّ ضيعته"[12].
 
وقد كان من حق الرعية أن تتظلم من الخليفة نفسه، وهذا من أعظم المحاكمات التي رأيناها في تاريخ الحضارة الإسلامية؛ فقد حكى رجل اسمه مسور بن مساور، قوله: "ظلمني وكيل للمهدي وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلاَّمًا صاحب المظالم، فتظلَّمتُ منه، وأعطيتُه رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنده عمه العباس بن محمد، وعافية القاضي.

قال: فقال له المهدي: ادْنُهُ. فدنوتُ، فقال: ما تقول؟ قلتُ: ظلمتَني. قال: فترضى بأحد هذين (يقصد القاضي عافية، أو عمه الْعَبَّاس).

قال: قلتُ: نعم. قال: فادنُ مني. فدنوتُ منه حتى التزقتُ بالفراش، قال: تكلم. قلتُ: أصلح الله القاضي، إنه ظلمني في ضيعتي هذا. فقال القاضي: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ضيعتي وفي يدي. قال: قلتُ: أصلح الله القاضي! سلْهُ: صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قال: فسأله: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: صارت إليَّ بعد الخلافة. قال: فأطلِقها له. قال: قد فعلتُ.

فقال العباس بن محمد: والله! يا أمير المؤمنين، لهذا المجلسُ أحبُّ إليَّ من عشرين ألف ألف درهم!"[13].
 
لقد كانت الحضارة الإسلامية تُعنى بجميع الأفراد، ولم تُفرِّق المؤسسة القضائية الإسلامية بين الرعايا على أساس الدين أو الجنس أو المكانة الاجتماعية، كما كان عند الرومان والفرس، أو حتى عند العرب أنفسهم قبل الإسلام، وكون خليفة المسلمين يخضع لقرار المؤسسة القضائية، ويُنفِّذ هذا القرار لرجل من عامة المسلمين- قد لا يكون صاحب منصب أو قبيلة تسانده، أو مال يتزلَّف به- لَيُؤَكِّد على رقي الحضارة الإسلامية، ويُعمِّق عندنا أن هذه الحضارة كانت تحترم مواطنيها، وتقف بجوار الضعيف والمظلوم منهم.
 
بل رأينا من الخلفاء، من يُقَدِّم النظر في المظالم على عيادة أمه المريضة وزيارتها؛ فقد حُكي أن الخليفة الهادي (ت 170هـ) "ركب يومًا يريد عيادة أمه الخيزران من علَّة كانت وجدتها، فاعترضه عمر بن بزيع[14]، فقال له: يا أمير المؤمنين، ألا أدلك على وجه هو أعود عليك من هذا؟ فقال: ما هو يا عمرُ؟ قال: المظالم، لم تنظر فيها منذ ثلاث. قال: فأومأ إلى المُطْرِقَة[15] أن يميلوا إلى دار المظالمز

ثم بعث إلى الخيزران بخادم من خدمه يعتذر إليها من تخلفه، وقال: قل لها: إن عمر بن بزيع أخبرنا من حق الله بما هو أوجب علينا من حقِّك، فملنا إليه، ونحن عائدون إليك في غد إن شاء الله"[16].
 
وقد كان الخليفة العباسي المأمون يُخَصِّصُ يوم الأحد من كل أسبوع للنظر في المظالم، وفي يوم من أيام جلوسه جاءته امرأة في ثياب رثّة "فقالت:

يَا خَيْرَ مُنْتَصِفٍ يُهْـدَى لَهُ الرَّشَـدُ *** وَيَا إمَامًا بِهِ قَدْ أَشْرَقَ الْبَلَـدُ

تَشْكُو إلَيْكَ عَمِيـدَ الْـمُلْكِ أَرَمَلَةٌ *** عَدَا عَلَيْهَا فَمَا تَقْوَى بِهِ أَسَدُ

فَابْتَزَّ مِنْهَـا ضِيَاعًا بَعْـدَ مَنْعَتِهَـا *** لَـمَّا تَفَرَّقَ عَنْهَا الأَهْلُ وَالْوَلَدُ
 
فأطرق المأمون يسيرًا ثمَّ رفع رأسه وقال:

مِنْ دُونِ مَـا قُلْتِ عِيلَ الصَّبْرُ وَالْـجَلَدُ *** وَأَقْرَحَ الْقَلْبَ هَذَا الْـحُزْنُ وَالْكَمَـدُ

هَـذَا أَوَانُ صَـلاَةِ الظُّهْرِ فَانْصَرِفِـي *** وَأَحْضِرِي الْـخَصْمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَعِدُ

الْـمَجْلِسُ السَّبْتُ إنْ يُقْضَ الْجُلُوسُ لَنَا *** أُنْصِفْكِ مِنْهُ وَإِلاَّ الْـمَجْلِسُ الأَحَـدُ
 
فانصرفت وحضرت يوم الأحد في أوَّل النَّاس، فقال لها المأمون: من خصمك؟ فقالت: القائم على رأسك العبَّاس بن أمير المؤمنين (ابنه)، فقال المأمون لقاضيه يحيى بن أكثم: أجلسها معه وانظر بينهما. فأجلسها معه.

ونظر بينهما بحضرة المأمون، وجعل كلامها يعلو، فزجرها بعض حجَّابه، فقال له المأمون: دعها فإنَّ الحقَّ أنطقها والباطل أخرسه. وأمر بردِّ ضياعها عليها. ففعل المأمون في النَّظر بينهما حيث كان بمشهده.

ولم يباشره بنفسه لما اقتضته السِّياسة؛ من وجهين: أحدهما: أنَّ حكمه ربَّما توجَّه لولده، وربَّما كان عليه، وهو لا يجوز أن يحكم لولده، وإن جاز أن يحكم عليه. والثَّاني: أنَّ الخصم امرأةٌ يجلُّ المأمون عن محاورتها... وباشر المأمون تنفيذ الحكم وإلزام الحقِّ"[17].
 
وتأديبًا من الخلفاء للعمال الظالمين "كان المنْصُور إذا عزل عاملًا أخذ ماله وتركه في بيت مالٍ مفرد سمَّاه بيت مال المظالم، وكتب عليه اسم صاحبه"[18]، لكن هذه المصادرات كانت إلى حين؛ إذ كانت غايتها تأديب هؤلاء الولاة وترهيبهم؛ ولذلك قال المنْصُور لابنه المهدي:" قد هيَّأت لك شيئًا، فإذا أنا متُّ فادع من أخذتُ ماله فاردده عليه، فإنك تُسْتَحْمد بذلك إليهم وإلى العامة. ففعل المهدي ذلك"[19].
 
في العصر الأندلسي:

وكان قضاء المظالم قد عُرف في الأندلس باسم "خُطَّة المظالم" التي ظهرت في وقت مبكِّر منذ الدولة الأموية في الأندلس، لكن لم تتَّضح واجباتها إلا في عصر الخلافة في القرن الرابع الهجري.
 
وقد مرَّت خُطَّة المظالم في المغرب والأندلس بتطور يختلف عن مثيلتها في الشرق الأموي والعباسي؛ إذ كانت أقل منزلة من رتبة "قاضي الجماعة"، أو ما يُسمى في المشرق بـ"قاضي القضاة"، ولم يَلِ هذه الوظيفة من الأمراء والخلفاء في الأندلس والمغرب إلا القليل منهم؛ ولذلك كان المتَوَلُّون لهذه المهمة من الفقهاء والعلماء الراسخين.

ومن أشهر من تولَّى المظالم في إفريقية محمد بن عبد الله (ت 398هـ) الذي قال في حقه ابن عذارى: "كانت وطأته اشتدت على أهل الريب والفساد، بالضرب والقتل وقطع الأيدي والأرجل، لا تأخذه فيها لومة لائم"[20].
 
وبلغت شهرة ومكانة بعض مَنْ وَلِيَ خطة المظالم في الأندلس درجة عالية بين الخاصة والعامة، وترقى بعضهم في المناصب الإدارية العليا في الدولة، فهذا "أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس قد تقلَّد خطة المظالم بعهد المنصور محمد بن أبي عامر؛ فكانت أحكامه شدادًا.

وعزائمه نافذة؛ وله على الظالمين سَوْرة[21] مرهوبة، وشارك الوزراء في الرأي؛ إلى أن ارتقى إلى ولاية القضاء بقرطبة، مُجْمِعًا إلى خُطة الوزارة والصلاة؛ وقلَّ ما اجتمع ذلك لقاضٍ قبله بالأندلس"[22].
 
في عصر الولاة:

واهتمَّ كثير من ولاة المسلمين بالنظر في المظالم كما كان الحال مع الخلفاء؛ فقد كان كافور الإخشيدي يجلس للمظالم يوم السبت من كل أسبوع، واستمرَّ على هذه العادة إلى أن توفي[23]، وكذلك كان دأب أمراء السلاجقة.

فقد خَصَّص الأمير طغرلبك يومين من كل أسبوع للنظر في المظالم، وكانت هذه عادة ملوكهم[24]، وكان الملك الْعَزِيز في الدولة الأيوبية يجلس للمظالم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع[25].
 
ومثل ذلك ما كان في الدولة السعدية في المغرب (961- 1069هـ)؛ إذ خَصَّص سلطانها أحمد المنصور (ت 1011هـ) مجلسًا للنظر في المظالم سمَّاه "الديوان".

وكان الديوان يُعقد يوم الأربعاء من كل أسبوع للمشورة فيما ينوب من جلائل الأمور، وعظيم النوازل، وفي هذا الديوان يُظهر شكايته مَنْ لم يجد سبيلًا للوصول إلى السلطان[26].
 
في عصر المماليك:

وقد اهتمَّ المماليك بولاية المظالم، وعَيَّنُوا لها خيار القضاة والفقهاء، ولم يمنع ذلك من نظرهم في بعض المظالم، فقد ذكر المقريزي في حوادث عام (661هـ) أن رجلين من أهل الإسكندرية قدما على سلطان مصر ركن الدين بيبرس البندقداري (ت 676هـ) "أحدهما يقال له ابن البوري، والآخر يُعرف بالمكرم بن الزيات، ومعهما أوراق تتضمن استخراج أموال ضائعة، فاستدعى السلطان في يوم الثلاثاء سادسه الأتابك والصاحب والقضاة والفقهاء، وأُمِرَتْ فقُرِئت.

وصار كلما ذُكِر له باب مظلمة سدَّه، ويعودُ على المذكورين بالإنكار، حتى انتهت القراءة. فقال: اعلموا أني تركتُ لله تعالى ستمائة ألف دينار من التصقيع والتقويم والراجل والعبد والجارية وتقويم النخل، فعوَّضني الله من الحلال أكثر من ذلك، وطلبت جرائد الحساب فزادت بعد حطِّ المظالم جملة، ومن ترك شيئًا لله عَوَّضه الله خيرًا وأمر بإشهار ابن البوري"[27]. 
 
ففي هذا الموقف، نجد أن السلطان يُحاسب معظم أجهزة الدولة؛ هم: وزير الحربية، ورئيس الوزراء، والمؤسسة القضائية، وكذا الفقهاء على تقصيرهم في ضياع أموال الرعية، ويُذَكِّرهم بأنه ترك لله تعالى آلاف الدنانير التي ارتأى أنها لم تكن من حقِّه، حثًّا لهم على الحفاظ على الأموال.

بل يعزل السلطان أحد الرجلين اللذين أتيا إليه بهذه الأوراق، ويأمر بإشهاره وفضحه في القاهرة؛ لأنه لم يُعلم السلطان بهذه الواقعة في وقتها.
 
وكان كثير من سلاطين المماليك يذهبون إلى الميادين العامة لقضاء مظالم الرعية؛ فكان منهم سيف الدين برقوق (ت 801هـ)، ففي حوادث عام (792هـ) يذكر المقريزي "أن برقوق قد جلس بالميدان تحت القلعة للنظر في المظالم والحُكْم بَيْنَ الناس على عادته، فهرع الناس إليه، وأكثروا من الشكايات، فكثر خوف الأكابر وفزعهم، وترقَّب كل منهم أن يُشْتَكى إليه"[28].
 
إن نظر الخلفاء والأمراء في المظالم على مدار تاريخ الحضارة الإسلامية، ليُؤَكِّد على أن كل الناس تحت طائلة القانون والمحاكمة إذا أخطئوا، لا ميزة في ذلك لطائفة الحكام والأمراء على من سواهم؛ فمعاقبة الأمراء وقادة الجند والولاة والوزراء وكبار رجال الدولة بمن فيهم الخليفة نفسه، لتؤكد لنا على نزاهة ورفعة الحضارة الإسلامية.

ولم تكن الحضارات كالفارسية والرومانية، أو حتى في العصور الحديثة كمحكمة العدل الدولية، لتُضارع أو تشابه عمل ولاية المظالم في حضارتنا الإسلامية الخالدة، التي كانت تأخذ على يد الظالم دون محاباة، أو تكيل بمكيالين، كما في عصرنا هذا!
 
وبعدُ، فإننا لن نستطيع أن نجمع كل ما تميزت به المؤسسة القضائية في الحضارة الإسلامية في فقرات قليلة، أو وريقات متعددة، فلا ريب أن هذا غمطٌ للحق، وبُعْدٌ عن جادَّة الصواب، ولكن تلك المواقف الرائعة التي أتينا بها ما هي إلا دليل على فيض هذه المؤسسة العريقة من المواقف والنظريات، التي سنَّت للمؤسسات الدستورية والقانونية في العالم المعاصر الأسس العامة، والمنهجية السليمة للتعامل في هذا السبيل المهم.
 
[1] البخاري: كتاب الأحكام، باب هدايا العمال (6753)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال (1832).
[2] أَرَحْتُ على الرجل حَقَّه: إِذا رددته عليه. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة روح 2/455.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية 6/82.
[4] عذت بمعاذ: أي قد لجأْت إلى ملجأ ولُذْت بِمَلاذ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة عوذ 3/498.
[5] صلعة: رجل أصلع بين الصلع، وهو الذي انحسر شعر مقدم رأسه.
[6] المتقي الهندي: كنز العمال 12/660، وابن الجوزي: مناقب عمر ص99.
[7] عنَّاك إليَّ: أي شَقَّ عليك وجعلك تعهد إليَّ، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة عنا 15/101.
[8] ابن عبد الحكم: سيرة عمر بن عبد العزيز ص146، 147.
[9] الماوردي: الأحكام السلطانية ص136، وانظر: ظافر القاسمي: نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي 2/566.
[10] مراده: أنه يخاف من قوة الله I.
[11] ابن نهيك: هو عثمان بن نهيك قائد حرس أبي جعفر المنصور.
[12] ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 32/392.
[13] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 4/586.
[14] هو عمر بن بزيع الكاتب: كان يخلف الربيع بن يونس في وزارته للهادي، فلما مات الربيع بقى عمر هذا في نيابة الوزارة إلى أن مات الهادى. ابن النجار البغدادي: ذيل تاريخ بغداد 5/31.
[15] المطرقة: أي الرجَّالة، ومفردها مطرق، وهو الراجِل. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة طرق 10/215.
[16] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 4/610.
[17] الماوردي: الأحكام السلطانية ص146، 147.
[18] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/224.
[19] ابن الأثير: السابق.
[20] ابن عذارى: البيان المغرب ص112.
[21] سَوْرَة السلطان: سطوته واعتداؤه. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة سور 4/384.
[22] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس ص86.
[23] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 4/315.
[24] المصدر السابق 4/382.
[25] المقريزي: السلوك 1/247.
[26] الناصري: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى 5/188.
[27] المقريزي: السلوك 1/560.
[28] المصدر السابق 5/286.

الكاتب: د. راغب السرجاني

المصدر: موقع الإيمان أولًا